روح البيان : الخطيب الموهوب - 2

إذا كان علماؤنا نصوا على أن  جوهر الخطابة كامن في التأثير لإمالة النفوس نحو الشيء أو صرفها عنه، حيث إن الخطيب الذي طبع على الخطابة ينفذ إلى النفس فيوقع في غالب ظنها أنه خير فتنصرف إليه، أو شر فتنصرف عنه.

إذا كان ذاك الطبع الخطابي يتمكن  من النفس "تأثيراً " بنوعيه السلبي والإيجابي، فلا غرو أن الخطيب الموهوب  يدمن التفكير والتأمل والتدبر؛ لأن الطبع والسليقة الخطابية قوتها تذبل وتطيش مع الزمن مالم يديم الخطيب  فرك "الموضوعات" و"المعاني" و"الخواطر" حتى يسلس قيادها فتتمكن من نفسه. 

ماهية الموهبة الخطابية  

• إلهاب مشاعر المخاطب الواعي اليقظ .
• التغلغل في زوايا نفس المخاطب  وخبايا أحاسيسه.  
• تشكيل عقلية المخاطب تشكيلا يصون قيمة الاختلاف.

إن  المخاطب -في خطبة الخطيب الموهوب الذي عموده الفقري إدمان إنضاج المعاني بنوعيها: العقلية والروحية-  يبدأ بإنماء قيمتي "الاستماع و الإصغاء"، ثم يقف المخاطب طويلا في التفكر بتلك المعاني التي تدور في مضمرات موضوعات الخطيب.

 ومما لا شك فيه أن المخاطب في حياة الخطيب الموهوب تشيخ أعضاء جسده و ما يزال ماء عقله وري قلبه و قشعريرة شعوره في نماء و ما ذلك إلا لأن الخطيب " الموهوب" يقدح سليقته الخطابية التي  ولدت معه  بالدربة البيانية الواسعة العميقة  التي تحتضن المعنى حتى يسلس بعد تخلقه تخلقا فيه من شخصية صاحبه .

مكنونات الحاسة البيانية عند الجاحظ

إن  الجاحظ استساغ  في" البيان والتبيين " البيان عن البيان فرصف تلك المكنونات و المكونات للحاسة البيانية  المضمرة والعميقة في خفايا نفس الإنسان فإذا بالحاسة البيانية عند الجاحظ لا تستنبط العميق المضمر من المعاني إلا بعد :   

-تمييز وسياسة.

-ترتيب ورياضة. 

-تمام الآلة. 

-إحكام الصنعة.

-سهولة المخرج. 

-جهارة النطق. 

-تكميل الحروف. 

-إقامة الوزن. 

-الحلاوة الخاصة.

-الجزالة والفخامة. 

إنما يكون الخطيب الموهوب الذي رزق التأثير في استمالة النفوس خطيبا إذا أدمن  صناعة و صياغة المعنى الخاص به في مختبرات نفسه و عقله، مستعينا بالوسائل العلمية  الممزوجة بصفاته النفسية والعقلية، و مايزال يستنبت الفكرة و يفركها مستكشفا طالبا لعلم قمن بعرض المظنونات من معتقداته في إهاب يلهب المشاعر في مقنع من العقل.

تطبيق عملي

    ومن هذا القبيل يعرض الخطيب الموهوب أدبية من أدبيات حياته الخطابية، يعرضها على آية قرآنية – مثلا – محاولا  تفتيق معان من الآية تتلاءم و جوهر هذه الأدبية التي يدمن التغلغل فيها وجه الدهر . 

 كيفية صياغة الخطيب الموضوع من الفكرة المجردة إلى الواقع المحسوس

 الأدبية: " تربية استقلالية البنوة في البيت" .

الآية : ﴿وَليَخشَ الَّذينَ لَو تَرَكوا مِن خَلفِهِم ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافوا عَلَيهِم فَليَتَّقُوا اللَّهَ وَليَقولوا قَولًا سَديدًا﴾  

يبدأ متدبراً متأملاً قادحاً الأدبية الخطابية التي يحتضنها في خفايا نفسه مع الآية القرآنية مستنبتاً موضوعاً مؤسساً على تحقيق هدف لطالما شغلت به شخصيته الخطابية حيث إن الأدبية في حياة الخطيب الموهوب تشكل الأساس في بنائه الخطابي، فهو يتعهد هذه الأدبيات يغذوها بلبان التحصيل في شق وبكيفيات التفكير في الشق الثاني

ولا يزال الخطيب ينقب في خبايا زوايا الأدبية " موضوع البحث" والتي هي في هذا التطبيق " استقلالية الشخصية " و الآية الأم في موضوعه، ،التي هي في سياق الأدبية آية سورة النساء. و لاغرو أن احتضان الأدبية ممزوجة بالآية الأم يثمر تشكلا و صوغا فإذا بالمعاني يسلس له قيادها؛ ليمسك قلمه الذي يرتاض بمعادلة : " التحصيل و التفكير". ليمسك قلمه ناثرا في قلبه و عقله قبل ورقه:

الأدبية :

الاستقلالية قيمة بوجودها تقدر الذات الإنسانية و تكرم. 

الاستقلالية قيمة تتفتح فطرتها في الأسرة التي تؤمن بحق الاختلاف. 

الاستقلالية قيمة تنسجم و الانتفاع بالاحتذاء و الاقتداء.

الاستقلالية قيمة تقتل في مهدها لما تسطو على الشخصية عاهة التقليد

 من أدبية الفكرة إلى معاني الآية

- حث على قيمة " العمل" في حياة الأسرة .

- الآية حرصت على رعاية وحماية النبتة الصغيرة الولود حتى يعجم عودها بعد تفتح برعمها.    

 - الآية مفتاح فهمها في جذر مادة " ذرية" 

  -الآية ختمت بالكلمة التي بها تستحيل الحياة حياة وفق سنن الله في الحياة والأحياء ألا وهي كلمة " سديداً".

مقترح للمقالات القادمة

     إن الخطيب الذي يؤسس أدبيات تحمل استفراغ وسعه المقرون بالحب والوله للموهبة التي عليها خلق خطيب لا يعدم استكشاف وسائل  في نحت موضوعه نحتا فيه من الفن و الجمال للتأثير وفيه من الرهق التحصيلي والتفكيري الذي ما يزال يعمل و يعمل للإقناع الذي يحمل المخاطب على بحبوبة النظر و التأمل و التدبر.