يرتقي الخطيب منبر الجمعة متزوداً بزاد يمتزج بموهبته حتى يستسيغ
التمكن من نفوس المخاطبين الذين يختلفون في الإدراك وطريقة التفكير، كما يختلفون
في مستويات التحصيل العلمي، من حيث الكم والنوع .
ولعلَّ الاختلاف في جمهور المخاطبين لا يقف عند هذه الظواهر، بل إنه يتعداه إلى
طبائع النفوس، وحرارة المشاعر وطبيعتها.
وأما ابتلاءات امتحان الحياة فمن الكثرة و التنوع ما يضع الروح البيانية في حياة
الخطيب الموهوب على جسر من تعب الدراسة والتأمل و المعالجة المتعلمة المبصرة.
فما الخطيب "الموهوب" الذي يتغلغل في منحنيات نفوس هذا التفاوت الواسع من المخاطبين؟
إنه الخطيب الموهوب الذي فطر وطبع على التأثير الساحر، و الإقناع الراسخ، والنفوذ
المطرد؛ و لعل الفطرة و السجية الخطابية تفتقر في مهد وجودها إلى صقل و تجويد و
تجديد في تنمية القدرات البيانية بهدف التمكن من صوغ ونسج المعاني في
لغة تساوي في عقلية الخطيب الموهوب استحياء الخواطر و استنبات الأفكار الكامنة
والمضمرة و المؤسسة على قيم روحية نفسية عميقة .
إن خطيباً تبوأ مكانة التأثير و النفوذ خطيب لا يتكئ على موهبته التي سرعان ما
تذوي وتذبل مالم يرب الخطيب ويتعهد - وجه الدهر- في نفسه حاسة البيان
التي بها تعمل هذه الموهبة، وبها تزداد موهبة الخطابة ألقاً وخبرةً وتولجاً في
الموضوعات، ومعالجة الأمراض معالجة ناجعة.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى التأمل في مفهوم الروح البيانية فالبيان في نفس
الخطيب الموهوب ثمرة غذاء عقلي نفسي روحي سلوكي حيث إنَّ الخطيب الموهوب يعمل
عملاً دونه خرط القتاد يعمل على ملازمة ومزاولة وملابسة البيان العالي في صفحات
حياة الكبار.
ولعل تلك الملامسة والمصاحبة تتفتح براعمها في نفس الخطيب على خاصية ينماز بها و
لعل تلك الخاصية تعمل مع عناصرها متكاملة على خلق شخصية الخطيب الساطعة،
فإذا به ذو صوت ينبعث مبينا مضمرات المعاني في أحسن كلمات ليمتد أثره متغلغلا
في منحنيات نفس المخاطب.
وفي هذه الملامسة والمصاحبة يدمن الخطيب في محاريب أرباب اللغة تأليفاً وصياغةً،
بله أصحاب اللغة تصنيفاً وتحبيراً.
أما العكوف والملابسة التي تفتق الروح البيانية للخطيب الموهوب بعد الإدمان
اللغوي شعراً ونثراً :
أولا- العكوف والمصاحبة للوحيين: كتاب الله وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين.
وفي هذا المحور الذي يعيش به وله الخطيب الموهوب تغذية طاقات متجددة
و استحياء قدرات نامية و استنباط كيفيات تمنح الروح البيانية
تميزاً في معالجة كل صعب عسر بله غيره .
ولعلَّ أكبر وأعظم ما يعين على ذلك الموضوع الأول، الموضوع الذي يتشكل طرداً من
كلمتين : الأولى "توحيد الخالق" في الوجه الأول، و "الأخلاق" الأولى
في الوجه الثاني.
إنه الموضوع الذي يتأبى الصياغة والتصوير والنسج إلا في نفس استساغت مفاهيم
الروح البيانية، من بعد التأمل والتدبر والعيش والمصاحبة للقرآن العظيم
الذي بسط في صفات أسماء الخالق العظيم بسطاً على تنوع و تعدد، ما يجعل الخطيب
الموهوب يستسيغ المعالجة الخاصية لا العامية، يستسيغ المعالجة العميقة لا
السطحية، يستسيغ المعالجة الإقناعية الخيالية العاطفية لا العجولة العرجاء
.
إنها الروح البيانية التي تبدأ من ملابسة و مصاحبة بيان القرآن العظيم، ثم تقف
طويلاً أمام بيان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مفتقة التطبيقات النبوية
المكتنزة بالمعالجات و المعالجات، وفي هذه الرحلة البيانية لا يزال الخطيب
الموهوب يصقل و يثقف أفكاره الروحية والنفسية والعقلية، بهدف إعداد موهبته
الخطابية لكيفيات القراءة السوية الصحية لكتاب الله وسنة رسول الله، وفي هذا
السياق لا يترك الخطيب الموهوب موهبته هملاً بل إنه مدمن في محراب العلوم التي
بها تنمو الروح البيانية.
ثانيا : أدبيات الخطيب الموهوب
إن الروح البيانية في عقيدة الخطيب الموهوب ما هي إلا في "دقائق وحقائق"
يعالجها الخطيب معالجة طويلة طويلة حتى تصل إلى نضج "ملكة نفس " فهي في
بدايتها أفكار تغلغلت في مضمرات أعماقه و منحنيات نفسه بعد أن
احتضنها متدبراً متأملاً حتى يصل و يبلغ درجة " الأدبيات " الأدبيات
التي تحمل خاصية صاحبها واستقلاله فلا يتقمم الخطيب الحق في عقول الآخرين ونفوسهم
وإنما يلتقط و ينتفع شرط معالجة الموضوع في منجم نفسه فإذا به يمزج الموهبة
بعنصري الخيال و الإقناع حتى يتكامل مع غيره وليقع في شرك التقليد المذموم
.
وفي سياق الأدبيات التي تعد "بطاقة تعريفية" ، " السيرة الذاتية" بكل
خطيب تميزه عمن سواه من الخطباء لا غرو أن الروح البيانية لن تبلغ أشدها وتستوي
على سوقها إلا لما تصوغها: الروح الشفيفة والعقلية المستقلة والنفس المبدعة
والشخصية الشجاعة المتمكنة التي تحرص على تنمية زوايا وخبايا موهبتها
الخطابية بشتى الوسائل الناجعة من قراءة في علوم الشريعة واللغة على أنها كتاب
واحد إلى احتضان طويل فيه صبر وإدمان لموضوعات برعمها تفتح في نفس هذا الخطيب
الألمعي .
ثالثا: دراسة "الروح البيانية" في حياة الموهوبين من الخطباء
إن دراسة "الروح البيانية" في حياة الموهوبين من الخطباء الذين وصلوا
وبلغوا وانتهوا إلى تكوين هذه الروح البيانية، فكانت حياتهم الخطابية قمنة
بالدراسة والتأمل، فما هي إلا شخصيات أنارت سبيل هذا العلم ذي الأثر البالغ
فلماذا لا يقف كل موهوب من الخطباء على تأمل طويل في "روح" في "بيان" من
سبقه سبقاً زمانيا أو سبقا نوعيا في هذه الخطابة الموهوبة.
ولا بد في نهاية هذه النمنمات من القول:
-الروح البيانية وراء كثرة ووفرة زاد الخطيب الموهوب الذي يصقل نفسه ويجود موضوعه
-الروح البيانية: تثقيف و صقل و تحبير و تجويد فإذا به خطيب توجل من كلماته
القلوب، وما ذلك إلا لأن المعاني المذخورة في صوته وراءها شيات روحية و
عقلية تحرك ساكناً، وتحيي مواتاً.
-الروح البيانية: في حياة الموهوب من الخطباء منزع نفس و عصارة روح و خلاصة طريقة
تفكير فإذا بها روح تنفخ الحياة في الحياة و الأحياء.