في ظلال آية - انشراح الصدر |
الحمدُ لله وكفى ، والصلاةُ والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومَن سار
على نهجه واهتدى .
أودّ أن نعيش في ظلال هذه الآية الكريمة ، لأنَّ الإنسان المعاصر يعيش في ظلّ هذه
المتناقضات والمتغيرات التي لا تكاد تتوقف حالةَ اكتئاب وقسوة وارتكاس ، لأنه
يسعى ليلحق بالركب حتى يواكب كلّ جديد مغرٍ، فيعجز ، وهو ما زال يلهث وراء سراب ،
فإذا دار في فلك العجز أُحبط، وصار عبدَ الصورة ، ليس له إلا أن يزداد همّاً
وغمّاً .
أما المسلم الذي يقرأ القرآن بعقل مفتوح، يتدبر بأدوات البحث العلمي ، يجوب آراء
السلف والخلف ليقف على المعاني البكر ، لا تستهويه هذه المغريات لأنّ عقله مشغول
بالاستخلاف والعمارة وأداء الأمانة ، ونفسَه لا تفتأ تفتش عن أهداب الصواب والحق
والعدل والخير والجمال، وقلبه مفعم بالحب والسلام والاطمئنان ، لأنّ الله جلّ في
علاه امتن عليه بانشراح الصدر ، تأمل :
﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِلإِسلامِ فَهُوَ عَلى نورٍ مِن رَبِّهِ
فَوَيلٌ لِلقاسِيَةِ قُلوبُهُم مِن ذِكرِ اللَّهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ﴾
[الزمر: ٢٢]
موقع الآية يعين على الفهم :
بدايةً لا أن تعلم أنَّ من أهم ما يعين على فهم الآية موقعَها، فلا بد أن تقرأ
الآية من خلال سياقها وسباقها لتتدبرها بحسب موقعها ، ولو انتزعتها من موقعها
ونظرتَ فيها وتدبرت فيها وجدت كلاماً تاماً ، ومعنى عالياً لا يكتنفه الغموض،
فإذا رجعت بها إلى موقعها وسلكتها مع ما قبلها وما بعدها وجدتها تضيء لك إضاءات
جديدة غير المعنى المستقل الأول ، وهذا من إعجاز البيان القرآني كما نبّه على ذلك
د. محمد أبو موسى حفظه الله .
تأمل الآية التي قبلها والتي تكتنز البرهان الساطع والدليل القاطع على أنَّ هذا
الكون كلَّه في قبضة حي قادر، واعلم أنّ هيمنة الله سبحانه على أقرب الأشياء إلى
عينيك هيمنة جدّ ظاهرة ، قال تعالى : ﴿أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي الأَرضِ ثُمَّ يُخرِجُ بِهِ زَرعًا
مُختَلِفًا أَلوانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَجعَلُهُ حُطامًا
إِنَّ في ذلِكَ لَذِكرى لِأُولِي الأَلبابِ﴾ [الزمر: ٢١] .
هل من إنسان على وجه البسيطة لا يدرك هذه الدورة الحياتية ولا يرى تلكم الآلية :
ماء من السماء يتنزل ، يُسلك ينابيع في الأرض، تَنبت البذرة بطعوم مختلفة ، مع أن
الماء واحد والتربة واحدة ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يكون حطاماً .
تكررت الرؤية في الآية مرتين: الأولى: أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ
ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ ، والثانية: فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ، للدِّلالة على
غاية الوضوح في البرهان، وأنّ هذا البرهان تحت بصرك، وأنَّ الكون كلَّه في قبضة
حي قادر، مليك مقتدر، عقب هذه الآية جاء الاستفهام الإنكاري: أَفَمَن شَرَحَ
ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ ، في هذا
الاستفهام -كما يقول د. أبو موسى- تعجيب وتجهيل للذي يرى قدرة الخالق سبحانه ،
ويبصر دورة الحياة، وأن الكون كلَّه في قبضة حي قادر ثم يتوهم أنَّ مَن دخل الدين
بحب ونشاط نفس وانشراح صدر كمَن كره الدين وضاق صدره بذكره ، هل يستويان ؟ من
يسوّي بين أصحاب الظلل في النار وبين أصحاب الغرف في الجنان ، هل يستويان ؟ مَن
يسوي بينهما في عقله لوثة ، لما أهدر قيمة عقله سوّى بين ذينك الفريقين، أعميت
العيون وضلَّت العقول واستوى البرهان ونقيضه ؟
نعمة انشراح الصدر :
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ : مَن أكرمه الله بهذه المِنّة الجسيمة
والنِّعمة العظيمة وهي انشراح الصدر : نظر فيما يقول ربه وتدبر ، بحث عن الحق
بنفس ليس لها مطمع إلا معرفة الصواب، استمع القول وتدبره واتبع أحسنه .
من نظر وبحث واستمع سيجد يد المولى سبحانه ترفعه إلى مقام معرفة الصواب والحق
والعدل والخير والجمال ؛ لأنه طلب الهدى فاهتدى ، مع سلامة القصد، وخلو النفس من
الضلالات والبدع والأهواء .
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ : هذه النعمة (انشراح الصدر) هي من النِّعم
الخاصة، ليست كنعمة العافية والرزق والخلق والزرع، هذه نِعم عامة ، مبذولة لكلّ
من مدَّ يده إليها، مطروحة في الطريق، أما نعمةُ انشراح الصدر لا تتصل بمدّ اليد،
وإنما تتصل بمدّ العقل والقلب والروح ، فمن استشرف إليها بنفسه وعقله وروحه من
خلال : النظر والبحث والاستماع قذفها الله سبحانه في قلبه .
معنى حرف (على) :
فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ : تأمل حرف الجر (على نور) يدلّ على التمكن
من الحق والنور والهدى ، لأنّ دليله بيّن، ونوره ساطع .
معرفة المسكوت من خلال المنطوق :
في الآية منطوق ومسكوت عنه، دلّ المنطوق على المسكوت ، ذكرت الآية صنفاً من الناس
انشرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، هذا الصنف يمتلك قلباً حياً : استعان
فأعين، استهدى فهدي، طلب الحق فأجيب ، يقابله مسكوت عنه وهو صنف آخر: ضيِّق
الصدر، أعرض عن الحق ، وكابر وعاند ، لم ينظر ولم يتدبر ، لم يبحث عن الهدى ، لم
يستمع ولم يتبصر ، غفل عن أنّ الكون كله في قبضة حي قادر ، فامتلك صدراً ضيّقاً
حَرَجَاً كأنما يصَّعد في السماء ، دلّ على هذا المسكوت عنه قوله : فَوَيۡلٞ
لِّلۡقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ، لماذا سكت عنهم ؟
سكت عنهم للدلالة على سرعة الخذلان ، فبمجرد كراهيتهم الحق والعدل والصواب والرشد
تعتريهم القسوة والغلظة والفظاظة والرَّان .
أخيراً .. من رام انشراح الصدر لينظر بعقل واعٍ، ليستمع بأذن واعية ، ليبحث عن
أسباب الهدى، فإذا سلك العبد طُرق الهدى هُدي إلى صراط مستقيم، وعاش حياة الرضى
عن الله سبحانه ، والقلم بيده ليبني النفوس الحية، ليعمر حضارة الإنسان بالقيم
المثلى والعبودية لله الواحد القهار . (1)
د. محمد منتصر عوض
__________________________________________
(1) انظر "الزمر _ محمد وعلاقتهما بآل حم ودراسة في أسرار البيان" للدكتور
محمد محمد أبو موسى .