JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

Accueil

السؤال مفتاح الرشد

السؤال مفتاح الرشد
السؤال مفتاح الرشد
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، خلَق الإنسانَ علَّمه البيان ، والصلاةُ والسلام على معلِّم الناس الخير، الهادي إلى صراطٍ مستقيم ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
لقد فطَر الله سبحانه وتعالى الإنسانَ على حركة دائبةٍ في دنيا الناس ، سعياً للرِّزق ، طلباً للحياة الكريمة ، ارتقاءً في درجات علمية رفيعة ، هذه الحركةُ الفاعلة للإنسان في شتى سُبُل الحياة لها إيقاعٌ منضبط ، لها سَمْتٌ مطَّرد ، فيها هدفٌ نبيل ، لأنَّ حركته تنماز بالرَّشد، فهي حركةٌ راشدة: عقلٌ رشيد ، وعملٌ سديد .
الرَّشد في أصل اللغة كما يقول ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" : «الرَّاء والشين والدال أصلٌ واحد يدلُّ على استقامة الطريق، فالمراشد: مقاصد الطرق، والرَّشد والرُّشد: خلاف الغي». فإذا كانت حركةُ الإنسان رشيدة، فهو يبحثُ عن طريق قويمة، وعن طريقة في التفكير مستقيمة، هذا البحثُ عن الرَّشد له كلمة مفتاحية : ألا وهي (السُّؤال) .
لك أن تتأمل بأدوات البحث العلمي، وبعقلك الفطري السَّليم قول الله تعالى :﴿وَلَقَد آتَينا إِبراهيمَ رُشدَهُ مِن قَبلُ وَكُنّا بِهِ عالِمينَ(٥١)إِذ قالَ لِأَبيهِ وَقَومِهِ ما هذِهِ التَّماثيلُ الَّتي أَنتُم لَها عاكِفونَ﴾[الأنبياء: ٥١-٥٢] ، لتتلمس رُشد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من خلال طرح السُّؤال الكبير وبكلِّ جَسارة واستقلال وقوةٍ يخاطب أباه وقومَه ، يخاطبُ عقولاً تحجَّرت وتغلغل فيها تقديس الوثن ، يخاطبُ نفوساً عشَّش فيها الجهل المقدَّس ، ليسألهم : مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِیلُ ٱلَّتِیۤ أَنتُمۡ لَهَا عَـٰكِفُونَ ؟ 
لقد كانت البدايةُ الرَّشيدة بطرح السُّؤال ليحطِّم أقفالَ عقولهم، وليُزيل الغَشاوة عن بصائرهم، وليمسح الرَّان عن قلوب صدَّعها التقليد الأعمى، تقليد السَّادة والكبراء، والأجدادِ والآباء، بغباوة وجهالة وعَماية ؛ لأنَّ السُّؤال يُحدِثُ في النّفس الإنسانية صرخةً مدويّة ، تتحرّر من أغلال الجهل، ويفتح في العقل نافذة للتفكير النقدي ليرصد حركة الإنسان بعقل مفتوح .
بدايةُ الرّشد السُّؤال ، لأنَّ السُّؤال من ورائه عقلٌ يتفكر، ونفسٌ تنزِع إلى استقلال اختياراتها، وسلوكٌ يترجم هذه القناعة ، فكانت بداية رُشده أن يفجأهم بالسُّؤال : مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ ؟ هل سألتم أنفسكم لماذا تقدّسون حجارةً صماء، تركعون وتسجدون لأصنام لا تضرّ ولاتنفع ؟ كيف طابت نفسُك أن تُطأطأ جبهتك لصنم ؟ ما القناعةُ العقلية التي سوَّغت لك هذا السّلوك الغريب ؟ 
لقد حرّك هذا السؤال في نفوسهم البحث عن عِلّة التقديس: ﴿قالوا وَجَدنا آباءَنا لَها عابِدينَ [الأنبياء: ٥٣] ، بدأ العقلُ يعمل ، وظني أنه للمرة الأولى يعمل ويتفكر، وهذا اعترافٌ صادر عن حقيقة ما يجدون؛ لأنّ السَّؤال صدَمهم، ولم يكن بالحِسبان أن يتجرأ إنسانٌ على مثل هذا السؤال، لكن إبراهيم وهو فتى في فتوة شبابه ، في زهرة أيامه يسألهم ، فاعترفوا على الفور إنما هو تقليد للسَّادة والكبراء والآباء ، فصرَخ فيهم صرخة مدويّة، صرخة الرَّشد : ﴿قالَ لَقَد كُنتُم أَنتُم وَآباؤُكُم في ضَلالٍ مُبينٍ [الأنبياء: ٥٤] ، وفي هذا اتهام للآباء صريح، وإنكار لهذا التقليد القبيح، واستثارة للعقول لتسأل : ﴿قالوا أَجِئتَنا بِالحَقِّ أَم أَنتَ مِنَ اللّاعِبينَ﴾ [الأنبياء: ٥٥]، وهذه بداية الرّشد ، بعد أن كانت القضية منزَّهة عن السُّؤال لقداستها عندهم ، صارت محلّ نقاش وحوار واعتراض، أوَحقٌ ما تتكلم به يا إبراهيم أم أنت من اللاعبين، تتلاعب بعقولنا ونفوسنا؟ فاستثمر سيدنا إبراهيم هذه اللحظة اليقظة ، وهذا الانفتاح العقلي الأول عسى أن تحصل القناعة بخِسَّة ما يعبدون من دون الله  ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِی فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَ ٰ⁠لِكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ (٥٦) وَتَٱللَّهِ لَأَكِیدَنَّ أَصۡنَـٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّوا۟ مُدۡبِرِینَ (٥٧)  [الأنبياء: ٥٦-٥٧] فقرَّر ربوبية الإله سبحانه، ثم نسَف ما كانوا يعبدون ويقدّسون :﴿فَجَعَلَهُم جُذاذًا إِلّا كَبيرًا لَهُم لَعَلَّهُم إِلَيهِ يَرجِعونَ[الأنبياء: ٥٨]، فألجأهم إبراهيم إلى السُّؤال ثانيةً عسى أن يبلغوا الرّشد ليتفكروا، ليسألوا عن آلهةٍ عجزت عن صيانة نفسها فكيف تملك لهم الضر والنفع ؟﴿قالَ أَفَتَعبُدونَ مِن دونِ اللَّهِ ما لا يَنفَعُكُم شَيئًا وَلا يَضُرُّكُم(٦٦) أُفٍّ لَكُم وَلِما تَعبُدونَ مِن دونِ اللَّهِ أَفَلا تَعقِلونَ﴾[الأنبياء: ٦٦-٦٧]
 لقد استطاع إبراهيم أن يصل إلى لُبِّ عقولهم ليفتح لهم أبواب الرَّشد بالسُّؤال، ووصل معهم إلى القناعة العقلية : ﴿ثُمَّ نُكِسوا عَلى رُءوسِهِم لَقَد عَلِمتَ ما هؤُلاءِ يَنطِقونَ [الأنبياء: ٦٥]  ولكنهم لما اصطدموا بالجهل المقدّس، بتقليد السَّادة والكبراء والآباء، وعجزوا عن مقارعة الدليل بالدليل لجؤوا إلى قوة اليد والبطش:﴿قالوا حَرِّقوهُ وَانصُروا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فاعِلينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨].
فالسُّؤال هو الكلمة المفتاحية لبلوغ الرّشد، ولن تبلغ الأمة مرحلة الرّشد إلا إذا فتحت باب السُّؤال على مصراعيه، لتتعلَّم عن دليل وبرهان، لتصنع معرفةً عن خبرةٍ وحجة وسلطان، لتبحث عن طرائق تفكير العلماء في صناعة المعرفة، وصياغة الأفكار البِكْر. 
تأمل سيدنا موسى عليه السلام كيف يطلُب الرّشد بالسؤال،﴿قالَ لَهُ موسى هَل أَتَّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمتَ رُشدًا﴾ [الكهف: ٦٦]، فاشترط العبد الصالح ألا يَسأل سيدنا موسى :﴿قالَ فَإِنِ اتَّبَعتَني فَلا تَسأَلني عَن شَيءٍ حَتّى أُحدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكرًا﴾ [الكهف: ٧٠] ، إذا أردتَ علماً رشداً فلا تسألني ، لكن سيدنا موسى بفطرته العِلمية، وبعقليته السُّنَنية لم يتقبل ألا يسأل عن مخالفات سلوكية غريبة : 
﴿ قالَ أَخَرَقتَها لِتُغرِقَ أَهلَها لَقَد جِئتَ شَيئًا إِمرًا﴾ [الكهف: ٧١]
﴿قالَ أَقَتَلتَ نَفسًا زَكِيَّةً بِغَيرِ نَفسٍ لَقَد جِئتَ شَيئًا نُكرًا﴾ [الكهف: ٧٤]
﴿قالَ لَو شِئتَ لَاتَّخَذتَ عَلَيهِ أَجرًا﴾ [الكهف: ٧٧]
هذه اعتراضات منهجية، لا يمكن للإنسان أن يتجاوزها دون عن يسأل عن عِلّة الفعل، فنحن نتعلم من سيدنا موسى عليه السلام السُّؤال لبلوغ الرّشد، أما تصرفات العبد الصالح فهي من وحي الله سبحانه: ﴿وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ﴾[الكهف: ٨٢]
إذا أردت بلوغ الرّشد فكن ذا عقل سَؤول، وقلب عقول، ونفسٍ تأبى التقليد الأعمى، وفكرٍ يبحث عن الدليل، وعلمٍ تسلك دربه لتظهر فيه صنعتك (بصمتك) المعرفية . 
NomE-mailMessage