JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

Accueil

الغفلة وأثرها على العبد

الغفلةُ وأثرُها على العبد
الغفلةُ وأثرُها على العبد
الحمدُ لله رب العالمين، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على معلِّم الإنسانية الخير والعدل والحُبَّ والجمال وعلى آله وصحبه أجمعين .
خلق الله الإنسان من قبضة الطين ونفخة الرّوح، وجعله خليفةً في الأرض :﴿إِنّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، وحمَّله أمانة التكليف والاختيار :﴿إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلومًا جَهولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] ، وطلَب منه عمارةَ الأرض : ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها﴾ [هود: ٦١]، ثم حدَّد الهدف من كلِّ هذا الخلق فقال : ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
 فالعبدُ خُلِق لهدفين اثنين : للعبادة وللعمارة ، أما العبادة لتفرده بالعبادة وحده جلَّ في علاه، لتعبده غاية الحُب مع تمام الخضوع والانكسار، لتعبده عبادة شعائرية وعبادة مجتمعية وعبادة تفكيرية، وأما العمارة لتعمُر هذه الأرض والتي من ترابها خُلقت، لتعمر العقول بالأفكار البِكْر، والنفوسَ بالعلوم الحيّة، والحياةَ بالإنسان الصالح ، والدنيا بكلِّ ما هو جديد نافع.
 هذه الخارطة الذهنية والتي ينبغي أن تكون منطبعة في النفس الإنسانية تحمل صاحبها على اليقظة فلا يغفل طرفةَ عين . 
الغفلةُ داءٌ وبيل، مرض فتاك ، خطر داهم ، إذا استشرى في جسد الأمة واستمرئ العبد توالي الغفلات فإنَّ منافذ الإداك عنده في خطر .
 تأمل : ﴿وَلَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ﴾ [الأعراف: ١٧٩] ، أصل الذرأ : الزرع ، وأنشد عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، فقال: شققتِ القلبَ ثم ذرأتِ فيه *** هواكِ فليمَ فالتأمَ الفُطورُ 
ولكن لما أُسند الفعل إلى ربِّ العزة صار بمعنى الخلق .
 لمَ هذا الذرأ يا ربنا؟ كان هذا بسبب شرودهم وغفلاتهم التي أوصلتهم إلى سدّ منافذ الإدراك، قبيحٌ بمَن أعطي شمعة أن يطفئها ويمشي في الظلمة ، فكيف بمَن أعطي نور العقل وقوة البصر وطاقة السمع ، لكنه أبطلَ منافعها وسدَّ منافذها. 
ما قيمةُ العقل إنْ لم تفكر بتدبر لتستنبط معرفةً ولتبدع علماً ؟ 
ما قيمةُ البصر إن لم تقرأ سُنن الله في الأنفس والآفاق ؟
 ما قيمةُ السمع إن لم تصغ إلى تسبيح الكائنات ؟ 
لما أبطلوا مفعول هذه النِّعم انحطوا إلى دَرَكَة :أُولئِكَ كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ.
 لتسلَم من داء الغفلة أيقظ في نفسك المنبه السمعي ، وعنوانه : ذكر الله سبحانه، تأمل كيف جاء الأمر الإلهي :﴿وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ٢٨] ، انفرط أمره وأصبح سائباً غير منضبط ولا مرتبط لما تبع شهواته، وصار عبد هواه، وابن عباس يقول: شرُ إلهٍ يُعبد في الأرض الهوى ، وقال تعالى:﴿وَلا تَكونوا كَالَّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنساهُم أَنفُسَهُم أُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [الحشر: ١٩] ، لما نسوا ذكر الله تعالى عاملهم ربنا معاملة مَنْ نسيهم، لما تركوا ذكر الله فتركَهم وولَّاهم ما تولَّوا .
 هذا المنبه السمعي جِدُّ هام؛ لأنه حياة القلب : روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» ، هذه الحياة تهبك في الدنيا رقةً في القلب، وانفتاحاً في العقل، وقوة في التفكير، وخشوعاً في النفس الإنسانية، ويوم القيامة تكون تحت ظل عرش الرحمن كماروى البخاري عن أبي هريرة في حديث: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم : وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ .
 هذا المنبه السمعي يحملك على المنبه البصري لتقرأ الآيات المسطورة بتدبر، كما تتأمل الآيات المنظورة لتقف على سنن الله في الأنفس والآفاق، وعلى سنن الله في الأمم والمجتمعات، كما وصف ابن عباس ليلته التي باتها عند خالته ميمونة، قال رضي الله عنه: نام رسول الله ﷺ ثم قعد، فنظر إلى السماء، ثم قرأ خواتيم آل عمران، ثم صلّى، ثم رقد حتى آذنه بلال بالصلاة .
 هذه القوة البصرية في معرفة أسرار الكون واستنباط العلوم والمعارف التي تنهض بالأمم تعطيك القدرة على صناعة كلِّ جديد نافع من خلال ديمومة النظر، وتكرار الفكرة النبيلة، وشحذ البصيرة اليقظة ، ولن تكون إلا بالدأب والمثابرة والجد في باب من أبواب العلم. وأخيراً أيقظ في نفسك المنبه الإدراكي لتعي إلى أين المصير ، حتى تسلَم من الجهالة، تأمل كيف قال ربنا عن صنفٍ من البشر:﴿يَعلَمونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غافِلونَ﴾ [الروم: ٧] ، يعلمون قوانين الحياة، ومفاتيح الثراء، وبوابات الشهرة ولكنهم عن الآخرة غافلون، عن الحقيقة المصيرية سادرون، فما قيمة هذه العلوم إن خلت من الإجابات على الأسئلة الكبرى : من أين ؟ وماذا بعد ؟ وإلى أين ؟ .
أخيراً ... اليقظةُ نعمة، وأحلى ما فيها أنك تستثمر كلَّ طاقات نفسك من فِكر وبَصر وسمعٍ وفؤاد، لتحقق العمارة المرجوّة في الدنيا فتكونَ لله وحده عبداً (1).
 د. محمد منتصر عوض 
دمشق: 4/2/2024
___________________________________________________________________________
(1)المصادر: ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة"، وابن عاشور في "التحرير والتنوير" ، و"تفسير ابن كثير"
NomE-mailMessage